اختلط الحابل بالنابل واختلف الفقهاء وتضاربت فتاواهم فسالت الكثير من دماء المسلمين والأبرياء!!
تشدد المتشددون وغالوا في دينهم فتشوهت صورة الإسلام في كل مكان.
تناسي الجميع مقولة الإمام الشافعي رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب.. وتمسك كل برأيه وجعل من فتواه المرجع والملاذ والمنقذ لعامة المسلمين!!
وما بين شيوع الجهل والخرافة تارة وامتطاء كل من هب ودب لحائط الدين تارة أخري و تنامي موجات المد الفكري الإسلامي المتطرف الذي أضر بصورة الإسلام وسماحة الدين في كل مكان يبرز نفر قليل من العلماء يرفعون الالتباس ويجتهدون بعلمهم ويكشفون عن عظمة الدين وسماحة الإسلام ويؤكدون أن العلم بمقاصد الشريعة الإسلامية وأسرارها هو لباب الفقه في الدين, وأن من لم يقف عند ظواهر النص ولم يغص في حقائقها وأعماقها ويتعرف علي أهدافها وأسرارها لا يعد فقيها في الدين.
يتربع علي دكة الأفتاء في عالمنا الإسلامي الآن وأحد أبرز هؤلاء الفقهاء المعاصرين العالم المجدد فقيه الوسطية الدكتور يوسف القرضاوي الذي كشف في أحدث وأعنف حوار له مع مجلة الأهرام العربي تناول فيه ظاهرة الجهل بالمقاصد والتي تعتبر الأساس الذي يتكئ عليه من يسئ للإسلام من داخل الحقل الإسلامي, والذي كشف خلالة عن أن المتطرفين قد أضروا بسماحة الدين الإسلامي الحنيف.
* هل تري ضررا يعود علي الإسلام والدعوة إليه من الجامدين والمتشددين؟
إنهم بجمودهم وتشددهم- بالرغم من إخلاص كثير منـــهم وتعبدهم- يضرون بالدعوة إلي الإسلام وإلي تطبيق شريعته, ضررا بليغا, ويشوهون صورته المضيئة أمام مثقفي العصر, وأمام العالم المتحضر, كما يبدو ذلك واضحا في موقفهم من قضايا المرأة والأسرة, وقضايا الثقافـــة والتربية والاقتصاد والسـياسة والإدارة, وقضايا الحرية وحقوق الإنسان والحوار مع الآخر, وخصوصا العلاقات الدوليــة, والعلاقة بغير المسلمين.
هم في قضية المرأة: يدعون إلي منعها من العمل, وإن كانت هــــي أو عائلتها في أمس الحاجة إليه, ويريدون منها أن تظل حبيسة البيــــت, ويعممـون ما ورد في( نساء النبي) علي جميع نساء المسلمين, مع أن الله تعالي قال:' يا نساء النبي لستن كأحد من النساء' الأحزاب.32 وهم لا يقبلون أن تشهد المرأة في الانتخابات, ويكون لها صوت بالإيجاب أو بالسلب. ناهيك عن أن ترشح لمجلس الشوري أو للنواب أو حتي للبلدية.وهم يدعون إلي أن نأخذ من مواطنينا المسيحيين وأمثالهم: الجزية باسمـــها وعنوانها, وأن لا نبدأهم بالسلام, وإذا لقيناهم في الطريق ألجأناهم إلي أضيقه, وأن نطبق عليهم ما ذكره الفقهاء حرفيا في العصور الماضية من أحكام أهل الذمة, ومنها تمييزهم في الزي عن المسلمين.وهم يعترضون علي ما ذكره الماوردي وغيره في أحكامه السلطانية, من جواز تولي أهل الذمة وزارة التنفيذ. بل هم ينكرون ترشيحهم للمجالس النيابية.وهم يرفضون تحديد مدة للولاية لرئيس الدولة, ولا بد أن تكون لمدي الحـــياة, وينكرون علي من أجاز التحديد, بأنه تقليد للكفار! وهم يرفضون الاقتباس من غيرنا, معتبرين ذلك من( الإحداث في الـدين) وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
ومن هنا يعتبرون الديمقراطية كلها( منكرا) تجب مقاومته, وأخذ القرار بالأكثرية:( بدعة غربية) مستوردة.وكذلك فكرة تكوين( الأحزاب) أو( الجماعات) كلها تدخل في دائرة الحديث الصحيح المتفق عليه:' من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد' أي مردود عليه. وهم يعنون بالشكل أكثر من عنايتهم بالجوهر, فأكبر همهم: أن يطيل الرجل لحيته, ويقصر ثوبه, وأن تلبس المرأة النقاب علي وجهها, ويضخمون من هذه الآداب كأنها من أركان الإسلام.وهم في العبادات يأخذون بالأحوط والأشد: يمنعون أخذ القيمة في الزكاة, ويرفضون إدخال الحساب في الصوم, لا في الإثبات ولا في النفي, ويمنعون رمي الجمرات قبل الزوال, ويوجبون المبيت في مني أيام التشريق رغم زحام الحجيج وضيق المكان.
* هم يرفضون التجديد في الدين, والاجتهاد في الفقه, والابتكار في أساليب الدعوة, كيف يرون الحياة إذن؟
يرون أن تبقي الحياة كما كانت في عصور السلف, مظهرا ومخبرا.. إلي آخر تلك المجموعة من الأفكار والمفاهيم التي يضيق المقام عن حصرها الآن, ولاسيما في باب السياسة الشرعية. وقد رددنا علي مقولاتهم في كثير من كتبنا, وخصوصا كتابنا( من فقه الدولة في الإسلام) وكتابنا( فتاوي معاصرة) بأجزائه المختلفة, و كتبنا في ترشيد الصحوة الإسلاميـة, وآخرها كتابا( الصحوة الإسلامية من المراهقة إلي الرشد) و(وخطابنا الإسلامي في عصر العولمة).
* كيف تري خطأ هذه المدرسة, وأنها لم تحسن الفــــهم عن الله ورسوله, كما ينبغي أن يكون؟.
لقد تبنوا روح المذهب الظاهري, وإن لم يتسموا باسمه, أو يدعوا انتحاله, ولكنهم أخذوا منه الجمود علي ظواهر الألفاظ, وإغفال الحكم والتعليلات للنصوص. ونسوا أن الأمة قد رفضت مذهب الظاهرية, ولم يكن لهم أتباع كسائر المذاهب الأخري. كما أنكر عليهم سائر علماء الأمة.
* هل ظاهرية ابن حزم أوقعته في أخطاء كبيرة ؟
نعم فقداتفق جمهور الأمة علي تعليل أحكام الشريعة, ووجوب رعاية المقاصد في الفقه والفتوي والقضاء. الحرفية في فهم النصوص وتفسيرها, والتقيد بذلك, دون النظر إلي ما يكمن وراء النص من علل ومقاصد, يدركها الباحث المتعمق.فإذا صح حديث يتوعد( مسبل الإزار) وأنه في النار, وأن الله لا ينظر إليه يوم القيامة ولا يكلمه, وله عذاب أليم لم يكلف أصحاب هذه المدرسة أنفسهم: أن يبحثوا في العلة من وراء هذا الوعيد الشديد..
* وهل مجرد الإسبال يستحق كل هذا الوعيد؟ وهل يتفق مع منطق الدين كله؟
أو يا تري هناك علة وراء هذا الوعيد الذي يخلع هوله القلوب؟ وهو( الخيلاء) التي ذكرت صراحة في بعض الأحاديث؟ فينبغي أن يحمل المطلق علي المقيد, وبذلك يزول اللبس, ويستقيم منطق الدين بعضه مع بعض. فإن الدين يوجه أكبر العناية إلي معاصي القلوب, وإن لم يغفل الآداب الظاهرة, ولكنها لا تبلغ أن يأتي في تركها هذا الوعيد الهادر. إنما يمكن أن يأتي في مثل الكبر والخيلاء. والله لا يحب كل مختال فخور. ولكن هذه المدرسة لا تعني نفسها بمثل هذا البحث, وتأخذ بحديث الإسبال علي ظاهره, وتشدد فيه كل التشديد, ما دام ينذر بالنار, وغضب الجبار.
* لكن هذا جنوح إلي التشدد والتنطع والغلو, هل هم يعرفون ذلك؟
هم لا يسمونه بذلك, بل تري ذلك هو الحق الذي اقتضاه الدليل!ولا ريب أن كل الغلاة والمتشددين في تاريخنا, كانوا يرون أنفسهم علي صواب, وأن الحق معهم لا مع غيرهم. حتي الخوارج الذين صحت الأحاديث في ذم وجهتهم, والتحذير منهم, ومن غلوهم في الدين, رغم مبالغتهم في التعبد الظاهري من صلاة وصيام وتلاوة قرآن, ولكنهم مع هذا يستحلون دماء المسلمين من غيرهم وأموالهم.( يقتلون أهل الإسلام, ويدعون أهل الأوثان) هؤلاء يميلون أبدا إلي الرأي الأثقل, والقول الأحوط, ولا يرضون بالتيسير منهجا, بل هم يذمون الميسرين من العلماء, ويرمونهم بالتساهل في الدين. والتهاون بأحكام الشرع.وتراهم إذا كان في المسألة قولان: لا يأخذون إلا أشدهما وأثقلهما, لا يكادون يعرفون ما في الدين من رخص, وما فيه من أحكام
الضرورات والحاجات التي تنزل منزلة الضرورات, ولا المخففات المعتبرة في الشرع من المرض والسفر واشتداد المشقة, وعموم البلوي.أقرب شيء إلي ألسنتهم وأقلامهم إذا سئلوا: أن يقولوا: حرام. مع أن السلف لم يكونوا يطلقون كلمة( الحرام) إلا علي ما علم تحريمه جزما.
* يبدوالاعتداد بالرأي الذي يذهبون إليه, إلي حد اعتباره هو الصواب المطلق, وكل الآراء الأخري التي يقول بها غيرهم: خطأ محض؟
إنهم لا يؤمنون بالمقولة التي تنسب إلي الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ, ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. بل يقولون: رأينا صواب لا يحتمل الخطأ, ورأي الآخرين خطأ لا يحتمل الصواب! ولهذا يحاولون أن يلغوا الآراء الأخري, والمذاهب الأخري, وأن يجمعوا الناس علي رأيهم وحده, لا شريك له!ولا غرو أن سموا( مدرسة الرأي الواحد) التي يكافح شيوخها وطلابها: أن يرفعوا الخلاف بين الناس, ولا يسمحون لرأي آخر أن يبرز أو يكون له من يؤمن به ويدعو إليه.وهذا ما جعل الثقات من العلماء يردون عليهم, ويبينون لهم: أن رفع الخلاف غير ممكن, كما أنه غير مفيد.ولقد وضحت في أكثر من كتاب لي: أن الاختلاف وخصوصا في الفقه والفروع, ضرورة ورحمة وسعة, وأقمت البينات علي ذلك الإنكار بشدة علي المخالفين
* كأنهم ينكرون وجود المخالفين لرأيهم أصلا؟
لقد تشددوافي الإنكار علي المخالفين لهم في الرأي والتوجه, وهذا فرع أو ثمرة لشدة اعتدادهم برأيهم وأنه الصواب وحده: جعلهم ينكرون, بل يشتدون في نكيرهم علي من خالفهم. مع إجماع علماء الأمة علي أنه لا إنكار في المسائل الخلافية الاجتهادية, إذ الآراء متساوية في نسبتها إلي الصواب والخطأ, ما دامت صادرة عن غير معصوم. قد يكون بعضها أرجح وأقرب إلي الصواب من بعض. ولكن تظل العصمة من الخطأ ممنوعة علي أي مجتهد.وكم رأينا من آراء كانت مرجحة أو مصححة في زمن ما, أتي زمان فضعفها العلماء, ورجحوا ما كان مرجوحا من قبل, وصححوا غيرها مما كان ضعيفا.
وهم ينكرون علي( المدرسة الوسطية) مقولتها الشهيرة: نتعاون فيما اتفقنا عليه, ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.فهم لا يعذرون من يخالفهم, ولا يقدرون وجهة نظره, حتي إنهم ليرفضون الحوار معه.
* إنهم يبالغون ضد من يخالفونهم في الرأي, بل إنهم في تجريحهم, وإساءة الظن بهم, وتبديعهم أو تفسيقهم, إلي حد قد ينتهي بتكفيرهم؟
الأصل في مخالفيهم من العلماء هو: الاتهام, وإذا كان الأصل في قوانين الناس: أن المتهم بريء حتي تثبت إدانته, وهذا ما تقره شريعتنا, فإن الأصل عندهم: أن المتهم مدان حتي تثبت براءته. وبراءته في أيديهم هم وليس بأيدي غيرهم.وقد صنف هؤلاء كتبا كبيرة مطبوعة طباعة فاخرة! في تجريح عدد من المفكرين المسلمين الذين لا يتفقون معهم, أوسعوهم ذما وجرحا بالبدعة وبالفسق- فسق التأويل- وربما بالكفر, من هؤلاء: الشيخ محمد الغزالي رحمه الله, والدكتور محمد عمارة, والأستاذ فهمي هويدي, والفقير إليه تعالي.
* إذا كنا نهتم بالآخر فإن هؤلاء الحرفيين لا يؤمنون بالآخر؟
إنه ضعف الحس بالآخر, بل ربما فقدانه بالكلية, سواء كان هذا الآخر مخالفا في المذهب العقدي, مثل: الشيعة, والإباضية, أم مخالفا في الدين نفسه, مثل: اليهود, والنصاري.فهم يخطبون ويكتبون ويؤلفون, وكأنهم في العالم وحدهم, ويرسلون كلامهم الذي يسيء إلي الآخرين إساءات بالغة, وكأنهم لا يشعرون, وربما يشعرون ولكنهم غير مبالين بنتائجه الخطيرة.
* لعلهم يكفرون إخواننا الشيعة؟
إنهم بالفعل يكفرون الشيعة, والشيعة يعيشون بين ظهرانيهم, أو قريبا منهم. وهذا ينعكس أيضا علي أهل السنة الذين يعيشون بين ظهراني الشيعة.
* مازال هؤلاء يدعون أدعية متوارثة بالموت لأولاد اليهود والنصاري؟
إنهم يدعون علي اليهود والنصاري أن يهلكهم الله, ولا يبقي منهم أحدا, وأن ييتم أطفالهم, ويرمل نساءهم, وربما كان في بلادهم أو بلاد جيرانهم من المسلمين كثير من المسيحيين واليهود من أهل دار الإسلام, يشاركونهم المواطنة, ولم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم, أو يظاهروا أعداءهم علي إخراجهم, وهؤلاء لم ينه الله تعالي عن برهم والإقساط إليهم فكيف يسوغ الدعاء عليهم بمثل هذه الدعوات, التي لم نر مثلها في القرآن علي ألسنة الأنبياء, وصالحي المؤمنين, ولا فيما جاء في أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم؟!
* ما الأسس الفقهية التي يستندون عليها ويرتكزون في تفكيرهم في التعامل مع النصوص ؟
أولا: الأخذ بظواهر النصوص, دون التأمل في معانيها وعللها ومقاصدها, فما أفادته هذه الظواهر أخذوا به, دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في هذا النص, وما أخذ منه من حكم: هل هو موافق لمقصود الشارع أولا؟ وهل للشارع مقصد منه أو لا ؟ وما هو ؟. وقالوا لو كنا في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وسمعنا قوله:' لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة' لكنا من الفريق الذي أخر الصلاة حتي وصلوا بني قريظة, وإن أضاعوا الصلاة في وقتها عملا بظاهر الأمر.
ويعيبون علي المعنيين بالمقاصد: أنهم يعرضون- تحت ستار المقاصد- عن نصوص القرآن والحديث عمدا, وهي التي أوجب الله الاحتكام إليها,( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا أن يكون الله لهم الخيرة من أمرهم) الأحزاب:36
* كيف يتعاملون مع العقل في فهم النصوص إذن؟
إنهم ينكرون( تعليل الأحكام) بعقول الناس واجتهادهم, ولا يثقون بالعقل الإنساني في فهم النصوص, ومحاولة التعرف علي مقاصدها وعللها, وما وراء الأحكام من حكم قصدها العليم الحكيم, وإن جهلها من جهلها. فالعقل عندهم متهم, ومن عول علي العقل من العلماء: اتهموه بأنه من المعتزلة, أو غيرهم من الجهمية وأمثالهم.
* كيف تقيمون هذا المسلك في التفكير من رفض تعليل الأحكام؟
نحن معهم في إنكار التعليل للأحكام في دائرة( العبادات)المحضة, فإن الأصل فيها أن تؤخذ بالتسليم والانقياد, وإن لم نعرف لها علة ولا حكمة مفصلة لمعني اختصت به وهو التعبد, بخلاف العادات والمعاملات, وما يتعلق بشئون الحياة, فإن الأصل فيها هو معرفة المعاني والأسرار والمقاصد, وهو ما نبه عليه الإمام الشاطبي, ودلل عليه في موافقاته, وسنعرض له عند حديثنا عن المدرسة الوسطية.
كما نوافق هؤلاء في عدم الاعتماد المطلق علي العقل وحده, دون الاستظهار بالشرع. فإن العقل إذا لم يستضئ بالشرع, ضل السبيل وفقد الدليل.. والحكم الشرعي هو: خطاب الله تعالي المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا. ومعني الاقتضاء: الأمر أو النهي, ومعني التخيير: الإذن والإباحة. وهذا لا يعرف إلا بوحي الله سبحانه إلي رسوله المؤيد بالآيات البينات, الدالة علي صحة نبوته. فمهمة العقل
هنا: أن يفهم خطاب الشارع الذي جاء به وحي الله في الكتاب والسنة ويحسن الفهم عنه. لا أن يعتبر نفسه منازعا للشارع.
* إذن هم كارهون لمدرسة الرأي في الفقه وفهم النصوص؟
إنهم يتهمون الرأي, بل يدينونه, ولا يرون استخدامه في فهم النصوص وتعليلها, ويرون اتباع الرأي والتوسع فيه أمرا مبتدعا ومذموما, وسموا الذين يستعملون الرأي:( الأرأيتيين) أي الذين يقولون دائما: أرأيت لو كان الأمر كذا ماذا يكون الحكم ؟ وكان المحدثون وأهل الرواية- بصفة عامة- أقرب إلي اللفظية من الفقهاء وأهل الدراية, إلا من اشتغل بالفقه منهم مثل: مالك والشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم, ممن عرفوا باسم: فقهاء الحديث.
* هل لنا أن نتين حكاية المدارس الفقهية في قضية الرأي؟
انقسم أهل الفقه بعد عصر الصحابة إلي مدرستين: مدرسة أهل الحديث والأثر. ومدرسة أهل الرأي والقياس. وكان معظم أهل الأثر في الحجاز, ومعظم أهل الرأي في العراق. ثم اقتربت المدرستان بعضهما من بعض, حين حاول أصحاب أبي حنيفة الذين يمثلون مدرسة( الرأي) الاستفادة من مدرسة الأثر, كما فعل أبو يوسف, ومحمد صاحبا أبي حنيفة في الاستفادة من مالك وعلم أهل المدينة. كما حاولت مدرسة الأثر أن تستفيد من مدرسة الرأي, كما استفاد الشافعي من كتب: محمد بن الحسن. وقال ابن المبارك وغيره من أئمة الحديث: الناس في الفقه عيال علي أبي حنيفة!ولكن ظل هناك متعصبون لمدرسة الأثر هاجموا الإمام أبا حنيفة هجوما عنيفا, نراه في مثل: كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد. وفيما رواه الخطيب في ترجمة أبي حنيفة في تاريخ بغداد, من أقاويل أهل الحديث وتجريحهم لإمام أهل الرأي.وأبو حنيفة ليس إلا وارثا لعلم مدرسة الكوفة الفقهية التي أسسها الصحابي الجليل: عبد الله ابن مسعود. فكان تبعا لأئمة أهل بلده, ولم يكن مبتدعا.
* هل يمكن القول بأن هؤلاء الحرفيين مؤصلون في العصر الحاضر للتشدد؟
إن المدرسة الحرفية تنهج- بصفة عامة- نهج التشدد في الأحكام, وتميل إلي شدائد ابن عمر, أكثر من ميلها إلي رخص ابن عباس, وإذا وجد قولان متكافآن أو متقاربان, أحدها أحوط والآخر أيسر, فإنها تميل دائما إلي الأخذ بالأحوط, مع أن رسول الله صلي الله عليه وسلم' ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما, ما لم يكن إثما'. مع أن جمهور الناس يحتاجون إلي التيسير.كما أنها لا تعترف بما حدث من تطور في العالم, تغير معه كل شيء عما كان في عهد فقهائنا القدامي, وخصوصا في هذا العصر: عصر الثورات العلمية الهائلة: التكنولوجية, والبيولوجية, والإلكترونية, والنووية, والفضائية, والاتصالات, والمعلومات.... الخ. ولهذا لا تراعي تغير الزمان والمكان والأعراف والأحوال التي ذكر المحققون من العلماء: أنها توجب تغير الفتوي بتغيرها, ولا ينظرون كثيرا إلي المخففات التي توجب التيسير علي الناس, مثل الضرورات, والحاجيات التي تنزل منزلة الضرورات, وما عمت به البلوي, متناسين القواعد التي قررها العلماء من قديم, مثل: إذا ضاق الأمر اتسع, والمشقة تجلب التيسير. ومما ذكروه عن عمر أنه كان يقول: أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها, وتفلتت منهم أن يعوها, واستحيوا حين سئلوا: أن يقولوا: لا نعلم, فعارضوا السنن برأيهم, فإياكم وإياهم. وفي رواية: فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا. قال ابن القيم: إسناده في غاية الصحة. وهذا فيمن يعارضون السنن بآرائهم, لا فيمن يستنبطون منها الأحكام بآرائهم, بناء علي تبين عللها ومقاصدها لعقولهم, فهذا هو الفقه في الدين عن الله ورسوله. واستندوا أيضا إلي تحذير ابن مسعود فيما رواه البخاري عنه أنه قال: فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم وهذا أيضا فيمن يستخدمون الرأي دون اعتماد علي أصل من كتاب أو سنة, أو قياس عليهما, أو نظر إلي مقاصدها. وقد كان ابن مسعود هو المؤسس الأول لهذه المدرسة التي عرفت بمدرسة الرأي في الكوفة. فنسبها إلي صحابة رسول الله: نسب موصول.
تشدد المتشددون وغالوا في دينهم فتشوهت صورة الإسلام في كل مكان.
تناسي الجميع مقولة الإمام الشافعي رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب.. وتمسك كل برأيه وجعل من فتواه المرجع والملاذ والمنقذ لعامة المسلمين!!
وما بين شيوع الجهل والخرافة تارة وامتطاء كل من هب ودب لحائط الدين تارة أخري و تنامي موجات المد الفكري الإسلامي المتطرف الذي أضر بصورة الإسلام وسماحة الدين في كل مكان يبرز نفر قليل من العلماء يرفعون الالتباس ويجتهدون بعلمهم ويكشفون عن عظمة الدين وسماحة الإسلام ويؤكدون أن العلم بمقاصد الشريعة الإسلامية وأسرارها هو لباب الفقه في الدين, وأن من لم يقف عند ظواهر النص ولم يغص في حقائقها وأعماقها ويتعرف علي أهدافها وأسرارها لا يعد فقيها في الدين.
يتربع علي دكة الأفتاء في عالمنا الإسلامي الآن وأحد أبرز هؤلاء الفقهاء المعاصرين العالم المجدد فقيه الوسطية الدكتور يوسف القرضاوي الذي كشف في أحدث وأعنف حوار له مع مجلة الأهرام العربي تناول فيه ظاهرة الجهل بالمقاصد والتي تعتبر الأساس الذي يتكئ عليه من يسئ للإسلام من داخل الحقل الإسلامي, والذي كشف خلالة عن أن المتطرفين قد أضروا بسماحة الدين الإسلامي الحنيف.
* هل تري ضررا يعود علي الإسلام والدعوة إليه من الجامدين والمتشددين؟
إنهم بجمودهم وتشددهم- بالرغم من إخلاص كثير منـــهم وتعبدهم- يضرون بالدعوة إلي الإسلام وإلي تطبيق شريعته, ضررا بليغا, ويشوهون صورته المضيئة أمام مثقفي العصر, وأمام العالم المتحضر, كما يبدو ذلك واضحا في موقفهم من قضايا المرأة والأسرة, وقضايا الثقافـــة والتربية والاقتصاد والسـياسة والإدارة, وقضايا الحرية وحقوق الإنسان والحوار مع الآخر, وخصوصا العلاقات الدوليــة, والعلاقة بغير المسلمين.
هم في قضية المرأة: يدعون إلي منعها من العمل, وإن كانت هــــي أو عائلتها في أمس الحاجة إليه, ويريدون منها أن تظل حبيسة البيــــت, ويعممـون ما ورد في( نساء النبي) علي جميع نساء المسلمين, مع أن الله تعالي قال:' يا نساء النبي لستن كأحد من النساء' الأحزاب.32 وهم لا يقبلون أن تشهد المرأة في الانتخابات, ويكون لها صوت بالإيجاب أو بالسلب. ناهيك عن أن ترشح لمجلس الشوري أو للنواب أو حتي للبلدية.وهم يدعون إلي أن نأخذ من مواطنينا المسيحيين وأمثالهم: الجزية باسمـــها وعنوانها, وأن لا نبدأهم بالسلام, وإذا لقيناهم في الطريق ألجأناهم إلي أضيقه, وأن نطبق عليهم ما ذكره الفقهاء حرفيا في العصور الماضية من أحكام أهل الذمة, ومنها تمييزهم في الزي عن المسلمين.وهم يعترضون علي ما ذكره الماوردي وغيره في أحكامه السلطانية, من جواز تولي أهل الذمة وزارة التنفيذ. بل هم ينكرون ترشيحهم للمجالس النيابية.وهم يرفضون تحديد مدة للولاية لرئيس الدولة, ولا بد أن تكون لمدي الحـــياة, وينكرون علي من أجاز التحديد, بأنه تقليد للكفار! وهم يرفضون الاقتباس من غيرنا, معتبرين ذلك من( الإحداث في الـدين) وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
ومن هنا يعتبرون الديمقراطية كلها( منكرا) تجب مقاومته, وأخذ القرار بالأكثرية:( بدعة غربية) مستوردة.وكذلك فكرة تكوين( الأحزاب) أو( الجماعات) كلها تدخل في دائرة الحديث الصحيح المتفق عليه:' من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد' أي مردود عليه. وهم يعنون بالشكل أكثر من عنايتهم بالجوهر, فأكبر همهم: أن يطيل الرجل لحيته, ويقصر ثوبه, وأن تلبس المرأة النقاب علي وجهها, ويضخمون من هذه الآداب كأنها من أركان الإسلام.وهم في العبادات يأخذون بالأحوط والأشد: يمنعون أخذ القيمة في الزكاة, ويرفضون إدخال الحساب في الصوم, لا في الإثبات ولا في النفي, ويمنعون رمي الجمرات قبل الزوال, ويوجبون المبيت في مني أيام التشريق رغم زحام الحجيج وضيق المكان.
* هم يرفضون التجديد في الدين, والاجتهاد في الفقه, والابتكار في أساليب الدعوة, كيف يرون الحياة إذن؟
يرون أن تبقي الحياة كما كانت في عصور السلف, مظهرا ومخبرا.. إلي آخر تلك المجموعة من الأفكار والمفاهيم التي يضيق المقام عن حصرها الآن, ولاسيما في باب السياسة الشرعية. وقد رددنا علي مقولاتهم في كثير من كتبنا, وخصوصا كتابنا( من فقه الدولة في الإسلام) وكتابنا( فتاوي معاصرة) بأجزائه المختلفة, و كتبنا في ترشيد الصحوة الإسلاميـة, وآخرها كتابا( الصحوة الإسلامية من المراهقة إلي الرشد) و(وخطابنا الإسلامي في عصر العولمة).
* كيف تري خطأ هذه المدرسة, وأنها لم تحسن الفــــهم عن الله ورسوله, كما ينبغي أن يكون؟.
لقد تبنوا روح المذهب الظاهري, وإن لم يتسموا باسمه, أو يدعوا انتحاله, ولكنهم أخذوا منه الجمود علي ظواهر الألفاظ, وإغفال الحكم والتعليلات للنصوص. ونسوا أن الأمة قد رفضت مذهب الظاهرية, ولم يكن لهم أتباع كسائر المذاهب الأخري. كما أنكر عليهم سائر علماء الأمة.
* هل ظاهرية ابن حزم أوقعته في أخطاء كبيرة ؟
نعم فقداتفق جمهور الأمة علي تعليل أحكام الشريعة, ووجوب رعاية المقاصد في الفقه والفتوي والقضاء. الحرفية في فهم النصوص وتفسيرها, والتقيد بذلك, دون النظر إلي ما يكمن وراء النص من علل ومقاصد, يدركها الباحث المتعمق.فإذا صح حديث يتوعد( مسبل الإزار) وأنه في النار, وأن الله لا ينظر إليه يوم القيامة ولا يكلمه, وله عذاب أليم لم يكلف أصحاب هذه المدرسة أنفسهم: أن يبحثوا في العلة من وراء هذا الوعيد الشديد..
* وهل مجرد الإسبال يستحق كل هذا الوعيد؟ وهل يتفق مع منطق الدين كله؟
أو يا تري هناك علة وراء هذا الوعيد الذي يخلع هوله القلوب؟ وهو( الخيلاء) التي ذكرت صراحة في بعض الأحاديث؟ فينبغي أن يحمل المطلق علي المقيد, وبذلك يزول اللبس, ويستقيم منطق الدين بعضه مع بعض. فإن الدين يوجه أكبر العناية إلي معاصي القلوب, وإن لم يغفل الآداب الظاهرة, ولكنها لا تبلغ أن يأتي في تركها هذا الوعيد الهادر. إنما يمكن أن يأتي في مثل الكبر والخيلاء. والله لا يحب كل مختال فخور. ولكن هذه المدرسة لا تعني نفسها بمثل هذا البحث, وتأخذ بحديث الإسبال علي ظاهره, وتشدد فيه كل التشديد, ما دام ينذر بالنار, وغضب الجبار.
* لكن هذا جنوح إلي التشدد والتنطع والغلو, هل هم يعرفون ذلك؟
هم لا يسمونه بذلك, بل تري ذلك هو الحق الذي اقتضاه الدليل!ولا ريب أن كل الغلاة والمتشددين في تاريخنا, كانوا يرون أنفسهم علي صواب, وأن الحق معهم لا مع غيرهم. حتي الخوارج الذين صحت الأحاديث في ذم وجهتهم, والتحذير منهم, ومن غلوهم في الدين, رغم مبالغتهم في التعبد الظاهري من صلاة وصيام وتلاوة قرآن, ولكنهم مع هذا يستحلون دماء المسلمين من غيرهم وأموالهم.( يقتلون أهل الإسلام, ويدعون أهل الأوثان) هؤلاء يميلون أبدا إلي الرأي الأثقل, والقول الأحوط, ولا يرضون بالتيسير منهجا, بل هم يذمون الميسرين من العلماء, ويرمونهم بالتساهل في الدين. والتهاون بأحكام الشرع.وتراهم إذا كان في المسألة قولان: لا يأخذون إلا أشدهما وأثقلهما, لا يكادون يعرفون ما في الدين من رخص, وما فيه من أحكام
الضرورات والحاجات التي تنزل منزلة الضرورات, ولا المخففات المعتبرة في الشرع من المرض والسفر واشتداد المشقة, وعموم البلوي.أقرب شيء إلي ألسنتهم وأقلامهم إذا سئلوا: أن يقولوا: حرام. مع أن السلف لم يكونوا يطلقون كلمة( الحرام) إلا علي ما علم تحريمه جزما.
* يبدوالاعتداد بالرأي الذي يذهبون إليه, إلي حد اعتباره هو الصواب المطلق, وكل الآراء الأخري التي يقول بها غيرهم: خطأ محض؟
إنهم لا يؤمنون بالمقولة التي تنسب إلي الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ, ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. بل يقولون: رأينا صواب لا يحتمل الخطأ, ورأي الآخرين خطأ لا يحتمل الصواب! ولهذا يحاولون أن يلغوا الآراء الأخري, والمذاهب الأخري, وأن يجمعوا الناس علي رأيهم وحده, لا شريك له!ولا غرو أن سموا( مدرسة الرأي الواحد) التي يكافح شيوخها وطلابها: أن يرفعوا الخلاف بين الناس, ولا يسمحون لرأي آخر أن يبرز أو يكون له من يؤمن به ويدعو إليه.وهذا ما جعل الثقات من العلماء يردون عليهم, ويبينون لهم: أن رفع الخلاف غير ممكن, كما أنه غير مفيد.ولقد وضحت في أكثر من كتاب لي: أن الاختلاف وخصوصا في الفقه والفروع, ضرورة ورحمة وسعة, وأقمت البينات علي ذلك الإنكار بشدة علي المخالفين
* كأنهم ينكرون وجود المخالفين لرأيهم أصلا؟
لقد تشددوافي الإنكار علي المخالفين لهم في الرأي والتوجه, وهذا فرع أو ثمرة لشدة اعتدادهم برأيهم وأنه الصواب وحده: جعلهم ينكرون, بل يشتدون في نكيرهم علي من خالفهم. مع إجماع علماء الأمة علي أنه لا إنكار في المسائل الخلافية الاجتهادية, إذ الآراء متساوية في نسبتها إلي الصواب والخطأ, ما دامت صادرة عن غير معصوم. قد يكون بعضها أرجح وأقرب إلي الصواب من بعض. ولكن تظل العصمة من الخطأ ممنوعة علي أي مجتهد.وكم رأينا من آراء كانت مرجحة أو مصححة في زمن ما, أتي زمان فضعفها العلماء, ورجحوا ما كان مرجوحا من قبل, وصححوا غيرها مما كان ضعيفا.
وهم ينكرون علي( المدرسة الوسطية) مقولتها الشهيرة: نتعاون فيما اتفقنا عليه, ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.فهم لا يعذرون من يخالفهم, ولا يقدرون وجهة نظره, حتي إنهم ليرفضون الحوار معه.
* إنهم يبالغون ضد من يخالفونهم في الرأي, بل إنهم في تجريحهم, وإساءة الظن بهم, وتبديعهم أو تفسيقهم, إلي حد قد ينتهي بتكفيرهم؟
الأصل في مخالفيهم من العلماء هو: الاتهام, وإذا كان الأصل في قوانين الناس: أن المتهم بريء حتي تثبت إدانته, وهذا ما تقره شريعتنا, فإن الأصل عندهم: أن المتهم مدان حتي تثبت براءته. وبراءته في أيديهم هم وليس بأيدي غيرهم.وقد صنف هؤلاء كتبا كبيرة مطبوعة طباعة فاخرة! في تجريح عدد من المفكرين المسلمين الذين لا يتفقون معهم, أوسعوهم ذما وجرحا بالبدعة وبالفسق- فسق التأويل- وربما بالكفر, من هؤلاء: الشيخ محمد الغزالي رحمه الله, والدكتور محمد عمارة, والأستاذ فهمي هويدي, والفقير إليه تعالي.
* إذا كنا نهتم بالآخر فإن هؤلاء الحرفيين لا يؤمنون بالآخر؟
إنه ضعف الحس بالآخر, بل ربما فقدانه بالكلية, سواء كان هذا الآخر مخالفا في المذهب العقدي, مثل: الشيعة, والإباضية, أم مخالفا في الدين نفسه, مثل: اليهود, والنصاري.فهم يخطبون ويكتبون ويؤلفون, وكأنهم في العالم وحدهم, ويرسلون كلامهم الذي يسيء إلي الآخرين إساءات بالغة, وكأنهم لا يشعرون, وربما يشعرون ولكنهم غير مبالين بنتائجه الخطيرة.
* لعلهم يكفرون إخواننا الشيعة؟
إنهم بالفعل يكفرون الشيعة, والشيعة يعيشون بين ظهرانيهم, أو قريبا منهم. وهذا ينعكس أيضا علي أهل السنة الذين يعيشون بين ظهراني الشيعة.
* مازال هؤلاء يدعون أدعية متوارثة بالموت لأولاد اليهود والنصاري؟
إنهم يدعون علي اليهود والنصاري أن يهلكهم الله, ولا يبقي منهم أحدا, وأن ييتم أطفالهم, ويرمل نساءهم, وربما كان في بلادهم أو بلاد جيرانهم من المسلمين كثير من المسيحيين واليهود من أهل دار الإسلام, يشاركونهم المواطنة, ولم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم, أو يظاهروا أعداءهم علي إخراجهم, وهؤلاء لم ينه الله تعالي عن برهم والإقساط إليهم فكيف يسوغ الدعاء عليهم بمثل هذه الدعوات, التي لم نر مثلها في القرآن علي ألسنة الأنبياء, وصالحي المؤمنين, ولا فيما جاء في أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم؟!
* ما الأسس الفقهية التي يستندون عليها ويرتكزون في تفكيرهم في التعامل مع النصوص ؟
أولا: الأخذ بظواهر النصوص, دون التأمل في معانيها وعللها ومقاصدها, فما أفادته هذه الظواهر أخذوا به, دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في هذا النص, وما أخذ منه من حكم: هل هو موافق لمقصود الشارع أولا؟ وهل للشارع مقصد منه أو لا ؟ وما هو ؟. وقالوا لو كنا في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وسمعنا قوله:' لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة' لكنا من الفريق الذي أخر الصلاة حتي وصلوا بني قريظة, وإن أضاعوا الصلاة في وقتها عملا بظاهر الأمر.
ويعيبون علي المعنيين بالمقاصد: أنهم يعرضون- تحت ستار المقاصد- عن نصوص القرآن والحديث عمدا, وهي التي أوجب الله الاحتكام إليها,( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا أن يكون الله لهم الخيرة من أمرهم) الأحزاب:36
* كيف يتعاملون مع العقل في فهم النصوص إذن؟
إنهم ينكرون( تعليل الأحكام) بعقول الناس واجتهادهم, ولا يثقون بالعقل الإنساني في فهم النصوص, ومحاولة التعرف علي مقاصدها وعللها, وما وراء الأحكام من حكم قصدها العليم الحكيم, وإن جهلها من جهلها. فالعقل عندهم متهم, ومن عول علي العقل من العلماء: اتهموه بأنه من المعتزلة, أو غيرهم من الجهمية وأمثالهم.
* كيف تقيمون هذا المسلك في التفكير من رفض تعليل الأحكام؟
نحن معهم في إنكار التعليل للأحكام في دائرة( العبادات)المحضة, فإن الأصل فيها أن تؤخذ بالتسليم والانقياد, وإن لم نعرف لها علة ولا حكمة مفصلة لمعني اختصت به وهو التعبد, بخلاف العادات والمعاملات, وما يتعلق بشئون الحياة, فإن الأصل فيها هو معرفة المعاني والأسرار والمقاصد, وهو ما نبه عليه الإمام الشاطبي, ودلل عليه في موافقاته, وسنعرض له عند حديثنا عن المدرسة الوسطية.
كما نوافق هؤلاء في عدم الاعتماد المطلق علي العقل وحده, دون الاستظهار بالشرع. فإن العقل إذا لم يستضئ بالشرع, ضل السبيل وفقد الدليل.. والحكم الشرعي هو: خطاب الله تعالي المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا. ومعني الاقتضاء: الأمر أو النهي, ومعني التخيير: الإذن والإباحة. وهذا لا يعرف إلا بوحي الله سبحانه إلي رسوله المؤيد بالآيات البينات, الدالة علي صحة نبوته. فمهمة العقل
هنا: أن يفهم خطاب الشارع الذي جاء به وحي الله في الكتاب والسنة ويحسن الفهم عنه. لا أن يعتبر نفسه منازعا للشارع.
* إذن هم كارهون لمدرسة الرأي في الفقه وفهم النصوص؟
إنهم يتهمون الرأي, بل يدينونه, ولا يرون استخدامه في فهم النصوص وتعليلها, ويرون اتباع الرأي والتوسع فيه أمرا مبتدعا ومذموما, وسموا الذين يستعملون الرأي:( الأرأيتيين) أي الذين يقولون دائما: أرأيت لو كان الأمر كذا ماذا يكون الحكم ؟ وكان المحدثون وأهل الرواية- بصفة عامة- أقرب إلي اللفظية من الفقهاء وأهل الدراية, إلا من اشتغل بالفقه منهم مثل: مالك والشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم, ممن عرفوا باسم: فقهاء الحديث.
* هل لنا أن نتين حكاية المدارس الفقهية في قضية الرأي؟
انقسم أهل الفقه بعد عصر الصحابة إلي مدرستين: مدرسة أهل الحديث والأثر. ومدرسة أهل الرأي والقياس. وكان معظم أهل الأثر في الحجاز, ومعظم أهل الرأي في العراق. ثم اقتربت المدرستان بعضهما من بعض, حين حاول أصحاب أبي حنيفة الذين يمثلون مدرسة( الرأي) الاستفادة من مدرسة الأثر, كما فعل أبو يوسف, ومحمد صاحبا أبي حنيفة في الاستفادة من مالك وعلم أهل المدينة. كما حاولت مدرسة الأثر أن تستفيد من مدرسة الرأي, كما استفاد الشافعي من كتب: محمد بن الحسن. وقال ابن المبارك وغيره من أئمة الحديث: الناس في الفقه عيال علي أبي حنيفة!ولكن ظل هناك متعصبون لمدرسة الأثر هاجموا الإمام أبا حنيفة هجوما عنيفا, نراه في مثل: كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد. وفيما رواه الخطيب في ترجمة أبي حنيفة في تاريخ بغداد, من أقاويل أهل الحديث وتجريحهم لإمام أهل الرأي.وأبو حنيفة ليس إلا وارثا لعلم مدرسة الكوفة الفقهية التي أسسها الصحابي الجليل: عبد الله ابن مسعود. فكان تبعا لأئمة أهل بلده, ولم يكن مبتدعا.
* هل يمكن القول بأن هؤلاء الحرفيين مؤصلون في العصر الحاضر للتشدد؟
إن المدرسة الحرفية تنهج- بصفة عامة- نهج التشدد في الأحكام, وتميل إلي شدائد ابن عمر, أكثر من ميلها إلي رخص ابن عباس, وإذا وجد قولان متكافآن أو متقاربان, أحدها أحوط والآخر أيسر, فإنها تميل دائما إلي الأخذ بالأحوط, مع أن رسول الله صلي الله عليه وسلم' ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما, ما لم يكن إثما'. مع أن جمهور الناس يحتاجون إلي التيسير.كما أنها لا تعترف بما حدث من تطور في العالم, تغير معه كل شيء عما كان في عهد فقهائنا القدامي, وخصوصا في هذا العصر: عصر الثورات العلمية الهائلة: التكنولوجية, والبيولوجية, والإلكترونية, والنووية, والفضائية, والاتصالات, والمعلومات.... الخ. ولهذا لا تراعي تغير الزمان والمكان والأعراف والأحوال التي ذكر المحققون من العلماء: أنها توجب تغير الفتوي بتغيرها, ولا ينظرون كثيرا إلي المخففات التي توجب التيسير علي الناس, مثل الضرورات, والحاجيات التي تنزل منزلة الضرورات, وما عمت به البلوي, متناسين القواعد التي قررها العلماء من قديم, مثل: إذا ضاق الأمر اتسع, والمشقة تجلب التيسير. ومما ذكروه عن عمر أنه كان يقول: أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها, وتفلتت منهم أن يعوها, واستحيوا حين سئلوا: أن يقولوا: لا نعلم, فعارضوا السنن برأيهم, فإياكم وإياهم. وفي رواية: فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا. قال ابن القيم: إسناده في غاية الصحة. وهذا فيمن يعارضون السنن بآرائهم, لا فيمن يستنبطون منها الأحكام بآرائهم, بناء علي تبين عللها ومقاصدها لعقولهم, فهذا هو الفقه في الدين عن الله ورسوله. واستندوا أيضا إلي تحذير ابن مسعود فيما رواه البخاري عنه أنه قال: فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم وهذا أيضا فيمن يستخدمون الرأي دون اعتماد علي أصل من كتاب أو سنة, أو قياس عليهما, أو نظر إلي مقاصدها. وقد كان ابن مسعود هو المؤسس الأول لهذه المدرسة التي عرفت بمدرسة الرأي في الكوفة. فنسبها إلي صحابة رسول الله: نسب موصول.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
شاركنا برأيك ولا تمر مرور الكرام